مؤسسة بيريللي: من عبق التاريخ إلى آفاق المستقبل

تهدف سجلات الشركات إلى جمع المعلومات وحفظها وحمايتها، إلا أن  المؤسسات التي تتطلع إلى المستقبل، تسعى إلى أكثر من ذلك، بحيث تحرص على مشاركة القصص وإلهام الابتكار ومد الجسور بين الأجيال. تتجسد هذه الرؤية في بيريللي، إحدى أبرز الشركات العائلية في العالم، من خلال عملها المؤسسي.

ارتبط اسم بيريللي بثقافة المنطقة وأهلها على مدار أكثر من 150 عاماً. واليوم، تضع مؤسسة بيريللي التعليم وسهولة الوصول إلى المعرفة في مقدمة أولوياتها، وتدرك أن تاريخها ليس مجرد سجل للإنجازات بل يمثل إرثاً مشتركاً مع مجتمعها.

يرى ألبرتو بيريللي، عضو مجلس إدارة المؤسسة أن الاعتماد على الموارد التاريخية والغنية للأرشيف يمثل امتيازاً ومسؤولية في نفس الوقت تجاه الشركة والشركاء والمجتمع بأكمله. ويؤكد أن مجموعة بيريللي من الوثائق التاريخية ليست مجرد سجل يثبت التزام الشركة بجودة منتجاتها وابتكاراتها وإرثها، بل هي شهادة على القيم الجوهرية لثقافتها المؤسسية.

ما هي الأحداث الرئيسية التي دفعت بيريللي إلى تأسيس المؤسسة؟

بدأت قصة بيريللي فعلياً في عام 1823 مع ولادة جيوفاني باتيستا في قرية فارينا. كان والده يعمل خبازاً، فيما تولت والدته رعاية أبنائهم العشرة، ورغم التحديات، تمكن الوالدان من ادخار ما يكفي من المال لإرسال جيوفاني إلى ميلانو لمتابعة تعليمه في المؤسسة التي أصبحت لاحقاً جامعة البوليتكنيك. وهناك، حصل جيوفاني على منحة دراسية أتاحت له السفر عبر أوروبا، حيث درس مختلف القطاعات الصناعية مع تقييم فرص ازدهارها، وتوصل إلى أن صناعة المطاط الناشئة تتمتع بإمكانات مستقبلية واعدة، فأسس شركة بيريللي في عام 1872.

شكّل البحث والتطوير والتكنولوجيا والتركيز على خدمة العملاء ركائز أساسية في نهج الشركة، وهي قيم لا تزال حاضرة بقوة حتى اليوم. وبعد أكثر من 150 عاماً، تُعد بيريللي واحدة من أقدم الشركات متعددة الجنسيات المرموقة في إيطاليا، وتشتهر بثقافتها المؤسسية الرائدة التي تجمع بين البحث العلمي والتجربة الفنية وتنمية المواهب، مع التركيز على الجوانب الإنسانية في الصناعة. 

في عام 2008، أسس مجلس إدارة بيريللي مؤسسة بيريللي في حي بيكوكا بميلانو، حيث يقع المقر الرئيسي للمجموعة. تهدف المؤسسة إلى الحفاظ على التراث الثقافي والتاريخي للشركة ومشاركته، فهي ليست مجرد مرجع لأرشيف شركة بيريللي، بل مورداً للمجتمع بأكمله، حيث تسلط الضوء على الرابطة بين الشركة والمنطقة والأفراد الذين ساهموا في دعم مسيرتها المميزة.

كيف تطورت المؤسسة وحافظت على مكانتها في عالم اليوم المتغير؟

عند تأسيس مؤسسة بيريللي في عام 2008، تم جمع وثائق من أرشيف 24 مؤسسة صناعية وعدد أكبر بكثير من الشركات التجارية العالمية لاستعراض تاريخ المؤسسة العريق وتجسيده. ومنذ ذلك الحين، تطورت المؤسسة لتضم العديد من الوثائق الأرشيفية التي تعزز ارتباط مجموعة بيريللي بجذورها الإيطالية والمجتمع الدولي، بما يتماشى مع التزامها ببناء مستقبل يستلهم من ماضي الشركة وإرثها العريق.

تركز مؤسسة بيريللي حالياً على مجالات متعددة، لكنها تُعنى بالدرجة الأولى بحفظ الوثائق منذ تأسيس بيريللي عام 1872 وحتى الوقت الحالي.

ويضم أرشيفها ما يعادل أربع كيلومترات من الوثائق، تشمل مواد الحوكمة والمواد الصناعية والتقنية، إلى جانب سجلات الاتصالات والثقافة، ما يوفر رؤية متكاملة عن التحولات التي شهدتها الشركة عبر تاريخها.

ولا تقتصر مهمة مؤسسة بيريللي على حفظ التاريخ فحسب، بل تهتم أيضاً بمشاركته، حيث تستقبل سنوياً آلاف الزوار في المعارض والمؤتمرات ومشاريع النشر ومكتبات المؤسسة والجولات الإرشادية والمبادرات البحثية. وتعمل المؤسسة على ترسيخ مكانتها كمرجع يُسهم في التثقيف ونشر المعرفة وتشجيع الحوار، انطلاقاً من إيمانها بأن ثقافتها تمثل ثروة ثمينة ينبغي الحفاظ عليها ومشاركتها.

ما أقدم الوثائق المحفوظة في الأرشيف؟

تعود بعض أقدم الوثائق إلى بدايات الشركة، إذ يضم الأرشيف تصاميم أول مصنع لشركة بيريللي الذي تبلغ مساحته 1000 متر مربع تم بناؤه عام 1873 في سانتا ميلانو. في ذلك الوقت، كان جدي يتوجه إلى موقع البناء في الريف برفقة اثنين أو ثلاثة أشخاص مستعينين بالخيول في أعمال التشييد، وحاملين بنادق تحسباً لهجمات الذئاب. والمفارقة أن ذلك المكان أصبح اليوم قلب مدينة ميلانو النابض بالحياة.تعود بعض أقدم الوثائق إلى بدايات الشركة، إذ يضم الأرشيف تصاميم أول مصنع لشركة بيريللي الذي تبلغ مساحته 1000 متر مربع تم بناؤه عام 1873 في سانتا ميلانو. في ذلك الوقت، كان جدي يتوجه إلى موقع البناء في الريف برفقة اثنين أو ثلاثة أشخاص مستعينين بالخيول في أعمال التشييد، وحاملين بنادق تحسباً لهجمات الذئاب. والمفارقة أن ذلك المكان أصبح اليوم قلب مدينة ميلانو النابض بالحياة.

من يشرف على أنشطة الأرشيف للمؤسسة، وما الذي يميزه عن غيره من أرشيف الشركات؟

يشرف على المؤسسة مجلس الإدارة الذي يضم ممثلين عن مجموعة بيريللي وعائلة بيريللي، ويرأس المجلس ماركو ترونشيتي بروفيرا (نائب الرئيس التنفيذي لمجموعة بيريللي)، فيما تشغل سيسيليا بيريللي منصب الرئيس الفخري. ويضم مجلس الإدارة أيضاً عضويتي (ألبرتو بيريللي) بصفة مستشار، إلى جانب أنطونيو كالابرو (نائب الرئيس الأول للثقافة في مجموعة بيريللي)، ونيكولو بيريللي، وجيوفاني ترونشيتي بروفيرا (نائب الرئيس التنفيذي للاستدامة والتنقل الحديث ورياضة السيارات في المجموعة). أما الأرشيف، فيشرف عليه مديرو قسم الثقافة المؤسسية في مجموعة بيريللي، حيث يتولى أنطونيو كالابرو منصب المدير الإداري، وتعمل لورا ريبولدي نائبة له. كما تضم المؤسسة فريقاً من المتخصصين يتولون فهرسة وحفظ مواد الأرشيف وإجراء الأبحاث ونشرها وتعزيز المبادرات الرقمية وبرامج التواصل، إلى جانب مختلف الأنشطة الثقافية.

يتميز أرشيف بيريللي عن غيره من أرشيف الشركات بالتزامه الراسخ تجاه المجتمع. وقد اعترفت وزارة الثقافة الإيطالية بأهميته التاريخية، فأعلنت في عام 1972 أنه “ذو أهمية تاريخية بالغة”، ووضعته تحت الحماية الرسمية، وهو تكريم رفيع للمؤسسة.

يضم الأرشيف مواد متعددة يتم تنظيمها وترميمها وفهرستها بشكل مستمر إضافة إلى تحويلها لنماذج رقمية. ويبرز قسم الاتصالات الذي يعكس شراكة طويلة جمعت بيريللي مع مفكرين وفنانين ومصورين ومتخصصين في فنون الجرافيك. أما المجموعة الفوتوغرافية، فتضم آلاف الصور التي تسجل تاريخ الشركة عبر المصانع والمنتجات والمعارض التجارية وسباقات السيارات وحتى جلسات تصوير الأزياء، وقد نفذ قسم الإعلان والاتصالات الكثير منها خلال الفترة الممتدة من عقد 1910 حتى عقد تسعينيات القرن الماضي  لتُنشر في مجلات الشركة وكتيبات منتجاتها وحملاتها الإعلانية.

تضم مؤسسة بيريللي مكتبة علمية وتقنية تحتوي على أكثر من 16 ألف مجلد، إلى جانب مكتبة تضم حوالي ألفي كتاب. ومن أبرز مقتنياتها الوثائق الشخصية لليوبولدو بيريللي، التي توثق فترة رئاسته لمجلس إدارة المجموعة بدءاً من عام 1965، وتمنح لمحة شاملة عن أبرز المحطات في تاريخ الشركة الحديث.

كيف تسهم مؤسسة بيريللي في إلهام الجيل القادم بقيم ريادة الأعمال والابتكار وقيادة الشركات العائلية؟

تسهم مؤسسة بيريللي في إلهام الشباب بقيم ريادة الأعمال والابتكار وقيادة الشركات العائلية من خلال سد فجوة المهارات التي كشفتها دراسة حديثة في منطقة ميلانو، حيث أظهرت أن الشركات الناشئة هناك تملك أفكاراً مبتكرة وحافزاً لتطويرها، لكن غياب ثقافة الريادة والرؤية الاستراتيجية يحول دون انطلاقتها الكاملة. ومن هذا المنطلق، ترى المؤسسة في ذلك فرصة لإحداث أثر طويل الأمد، عبر دعم الشباب وتمكينهم من تحويل أفكارهم إلى مشاريع ناجحة تحقق رؤيتهم.

منذ عام 2013، تطرح مؤسسة بيريللي برامج ودورات تعليمية مجانية تهدف إلى ترسيخ القيم الجوهرية في ثقافتها المؤسسية، وفي مقدمتها الابتكار والاستدامة وريادة الأعمال. 

وتستهدف هذه المبادرات فئات متنوعة من المتعلمين، بدءاً من تلاميذ المدارس الابتدائية وصولاً إلى أساتذة وباحثون جامعيون.

يتم تشجيع طلاب المرحلة الابتدائية على تنفيذ مشاريع إبداعية تعزز معلوماتهم عن المطاط واستخداماته. وفي المرحلة الإعدادية، يشارك الطلبة في أنشطة تشمل الاتصالات الرقمية والروبوتات والأتمتة وغيرها. أما طلاب المرحلة الثانوية والجامعات، فيتلقون تعليماً عن التكنولوجيا والبحث والتطوير والتصميم والإعلان والاستدامة.

يشارك أكثر من 3,500 طالب سنوياً في هذه البرامج والدورات. ومنذ عام 2020، أصبحت غالبية الأنشطة متاحة عبر الإنترنت من خلال جولات افتراضية وبودكاست ومقاطع فيديو. كما عقدت مؤسسة بيريللي شراكات مع نخبة من الجامعات في إيطاليا وخارجها لتطوير ورش عمل ودورات مخصصة لطلاب المرحلة الجامعية.

ما نصيحتك للشركات العائلية التي ترغب في إنشاء أرشيف خاص بها؟

يُعتبر أرشيف الشركة مستودعاً حياً لا يقتصر دوره على حفظ التراث، بل يساهم أيضاً في دعم نجاحها واستمرارية إرثها. ومع تزايد حضور الذكاء الاصطناعي وتطور قدراته، تزداد الحاجة إلى توثيق الإنجازات التي تجسد هوية الشركة والمسؤولين عنها. وغالباً ما تحمل الشركات العائلية هوية ثقافية مميزة ينبغي الحفاظ عليها واستثمارها كمرجع أساسي يوجه مسيرتها المستقبلية.

الشركة هي منظومة معقدة، وعندما يتبنى العاملون ثقافتها ورسالتها ورؤيتها، تصبح مساهماتهم جزءاً أساسياً من ماضيها وحاضرها ومستقبلها. ولا يقتصر دور الشركات على خدمة مجتمعاتها فحسب، بل نعتقد بأنها تتحمل مسؤولية بناء هوية ثقافية ومشاركتها مع جميع الشركاء. ويُعد أرشيف الشركة أداة أساسية لتحقيق هذا الهدف.

تاريخ النشر: 31-أكتوبر-2025